وقال البيهقي لما ساق هذا الحديث في سننه: الحسن بن عمارة لا يحتج به اهـ وهو أبو محمد البجلي مولاهم الكوفي قاضي بغداد، واحتجوا أيضًا بما روي عن ابن عمر، وعلي، وعمرو بن العاص موقوفًا عليهم، أما ابن عمر فرواه عنه البيهقي، والحاكم من طريق عامر الأحول، عن نافع عن ابن عمر قال: يتيمم لكل صلاة، وإن لم يحدث، قال البيهقي: وهو أصح ما في الباب قال: ولا نعلم له مخالفًا من الصحابة.
قال مقيده عفا الله عنه: ومثل هذا يسمى إجماعًا سكوتيًا، وهو حجة عند أكثر العلماء، ولكن أثر ابن عمر هذا الذي صححه البيهقي، وسكت ابن حجر على تصحيحه له في التلخيص، والفتح، تكلم فيه بعض أهل العلم بأن عامرا الأحول ضعفه سفيان بن عيينة، وأحمد بن حنبل، وقيل لم يسمع من نافع، وضعف هذا الأثر ابن حزم ونقل خلافه عن ابن عباس وقال ابن حجر في الفتح: بعد أن ذكر أن البيهقي قال: لا نعلم له مخالفًا. وتعقب بما رواه ابن المنذر عن ابن عباس، أنه لا يجب.
وأما عمرو بن العاص فرواه عنه الدارقطني، والبيهقي، من طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة. أن عمرو بن العاص كان يتيمم لكل صلاة، وبه كان يفتي قتادة، وهذا فيه إرسال شديد بين قتادة، وعمرو، قاله ابن حجر في التليخص، والبيهقي في (السنن الكبرى) وهو ظاهر، وأما علي فرواه عنه الدارقطني أيضًا بإسناد فيه حجاج بن أرطاة والحارث الأعور قاله ابن حجر أيضًا، ورواه البيهقي في السنن الكبرى بالإسناد الذي فيه المذكوران.
أما حجاج بن أرطاة، فقد قال فيه ابن حجر في (التقريب): صدوق، كثير الخطأ، والتدليس، وأما الحارث الأعور فقال فيه ابن حجر في التقريب: كذبه الشعبي في رأيه، ورمي بالرفض، وفي حديثه ضعف، وقال فيه مسلم في مقدمة صحيحه: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا جابر عن مغيرة عن الشَّعبي قال: حدثني الحارث الأعور الهمداني، وكان كذابًا. حدثنا أبو عامر عبد الله بن بَرَّاد الأشعري، حدثنا أبو أسامة عن مُفَضَّل عن مغيرة قال: سمعت الشَّعْبي يقول: حدثني الحارث الأعور وهو يشهد أنه أحد الكذابين وقد ذكر البيهقي هذا الأثر عن علي في التيمم، في باب (التيمم لكل فريضة)، وسكت عن الكلام في المذكورين أعني حجاج بن أرطاة، والحارث الأعور، لكنه قال في حجاج في باب (المنع من التطهير بالنَّبيذ)) لا يحتج به. وضعفه في باب (الوضوء من لحوم الإبل)، وقال في باب (الدية أرباع) مشهور بالتدليس، وأنه يحدث عمن لم يلقه، ولم يسمع منه، قاله الدارقطني، وضعف الحارث الأعور في باب (منع التطهير بالنَّبيذ أيضًا).
وقال في باب (أصل القسامة): قال الشعبي: كان كذابًا. * * *
المسألة السابعة: إذا كان في بدنه نجاسة، ولم يجد الماء، هل يتيمم لطهارة تلك النجاسة الكائنة في بدنه ـ فيكون التيمم بدلًا عن طهارة الخبث عند فقد الماء. كطهارة الحدث ـ أو لا يتيمم لها؟
ذهاب جمهور العلماء إلى أنه لا يتيمم عن الخبث، وإنما يتيمم عن الحدث فقط
واستدلوا بأن الكتاب والسنة إنما دلا على ذلك كقوله: {أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} .
وتقدم في حديث عمران بن حصين، وحديث عمار بن ياسر المتفق عليهما: التيمم عند الجنابة، وأما عن النجاسة فلا، وذهب الإمام أحمد إلى أنه يجوز عن النجاسة إلحاقًا لها بالحدث، واختلف أصحابه في وجوب إعادة تلك الصلاة.
وذهب الثوري، والأوزاعي، وأبو ثور إلى أنه يمسح موضع النجاسة بتراب ويصلي، نقله النووي عن ابن المنذر.
قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ}.
لم يبين هنا شيئًا من ذلك الكثير الذي يبينه لهم الرسول الله صلى الله عليه وسلم مما كانوا يخفون من الكتاب، يعني التوراة والإنجيل، وبين كثيرًا منه في مواضع أخر.
فمما كانوا يخفون من أحكام التوراة رجم الزاني المحصن، وبينه القرآن في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ} .
يعني يدعون إلى التوراة ليحكم بينهم في حد الزاني المحصن بالرجم، وهم معرضون عن ذلك منكرون له، ومن ذلك، ما أخفوه من صفات الرسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابهم، وإنكارهم أنهم يعرفون أنه هو الرسول، كما بينه تعالى بقوله: {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ} .
ومن ذلك إنكارهم أن الله حرم عليهم بعض الطيبات بسبب ظلمهم ومعاصيهم، كما قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} ، وقوله: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ} .
فإنهم أنكروا هذا، وقالوا لم يحرم علينا إلا ما كان محرمًا على إسرائيل، فكذبهم القرآن في ذلك في قوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} .
ومن ذلك كتم النصارى بشارة عيسى ابن مريم لهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، وقد بينها تعالى بقوله: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ} إلى غير ذلك من الآيات المبينة لما أخفوه من كتبهم.
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ}
قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ}.
قال جمهور العلماء: إنهما ابنا آدم لصلبه، وهما هابيل، وقابيل.
وقال الحسن البصري رحمه الله: هما رجلان من بني إسرائيل، ولكن القرآن يشهد لقول الجماعة، ويدل على عدم صحة قول الحسن، وذلك في قوله تعالى: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ} ، ولا يخفى على أحد أنه ليس في بني إسرائيل رجل يجهل الدفن حتى يدله عليه الغراب، فقصة الاقتداء بالغراب في الدفن، ومعرفته منه تدل على أن الواقعة وقعت في أول الأمر قبل أن يتمرن الناس على دفن الموتى، كما هو واضح، ونبه عليه غير واحد من العلماء، والله تعالى أعلم.
{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}
قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ}.
صرح في هذه الآية الكريمة أنه كتَب على بني إسرائيل أنه من قتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا، ولم يتعرض هنا لحكم من قتل نفسًا بنفس، أو بفساد في الأرض، ولكنه بين ذلك في مواضع أخر، فبين أن قتل النفس بالنفس جائز، في قوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ، وفي قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} ، وقوله: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ} .
واعلم أن آيات القصاص في النفس فيها إجمال بيَّنته السنة، وحاصل تحرير المقام فيها أن الذكر الحر المسلم يقتل بالذكر الحر المسلم إجماعًا، وأن المرأة كذلك تقتل بالمرأة كذلك إجماعًا، وأن العبد يقتل كذلك بالعبد إجماعًا، وإنما لم نعتبر قول عطاء باشتراط تساوي قيمة العبدين، وهو رواية عن أحمد، ولا قول ابن عباس: ليس بين العبيد قصاص، لأنهم أموال.
لأن ذلك كله يرده صريح قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} ، وأن المرأة تقتل بالرجل، لأنها إذا قتلت بالمرأة، فقتلها بالرجل أولى، وأن الرجل يقتل بالمرأة عند جمهور العلماء فيهما.
وروي عن جماعة منهم علي، والحسن، وعثمان البتي، وأحمد في رواية عنه أنه لا يقتل بها حتى يلتزم أولياؤها قدر ما تزيد به ديته على ديتها. فإن لم يلتزموه أخذوا ديتها.
وروي عن علي والحسن أنها إن قَتلت رجلًا قتلت به، وأخذ أولياؤه أيضًا زيادة ديته على ديتها، أو أخذوا دية المقتول واستحيوها.
قال القرطبي بعد أن ذكر هذا الكلام عن علي رضي الله عنه، والحسن البصري، وقد أنكر ذلك عنهم أيضًا: روى هذا الشعبي عن علي، ولا يصح لأن الشعبي لم يلق عليًا. وقد روى الحكم عن علي، وعبد الله أنهما قالا: إذا قتل الرجل المرأة متعمدًا فهو بها قود، وهذا يعارض رواية الشعبي عن علي. وقال ابن حجر في (فتح الباري) في باب سؤال القاتل حتى يقر، والإقرار في الحدود بعد أن ذكر القول المذكور عن علي والحسن: ولا يثبت عن علي، ولكن هو قول عثمان البتي أحد فقهاء البصرة ويدل على بطلان هذا القول أنه ذكر فيه أن أولياء الرجل إذا قتلته امرأة يجمع لهم بين القصاص نصف الدية، وهذا قول يدل الكتاب والسنة على بطلانه، وأنه إما القصاص فقط، وإما الدية فقط، لأنه تعالى قال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} ثم قال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} ، فرتب الاتباع بالدية على العفو دون القصاص.
وقال صلى الله عليه وسلم: "مَن قُتِل لَه قَتِيل فهُو بِخَيْر النظرين" الحديث، وهو صريح في عدم الجمع بينهما، كما هو واضح عند عامة العلماء. وحكي عن أحمد في رواية عنه، وعثمان البتي، وعطاء أن الرجل لا يقتل بالمرأة، بل تجب الدية، قاله ابن كثير، وروي عن الليث والزهري أنها إن كانت زوجته لم يقتل بها، وإن كانت غير زوجته قتل بها.
والتحقيق قتله بها مطلقًا. كما سترى أدلته، فمن الأدلة على قتل الرجل بالمرأة إجماع العلماء على أن الصحيح السليم الأعضاء إذا قتل أعور أو أشل، أو نحو ذلك عمدًا وجب عليه القصاص، ولا يجب لأوليائه شيء في مقابلة ما زاد به من الأعضاء السليمة على المقتول.
ومن الأدلة على قتل الرجل بالمرأة ما ثبت في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أنس "أنه صلى الله عليه وسلم رض رأس يهودي بالحجارة قصاصًا بجارية فعل بها كذلك"، وهذا الحديث استدل به العلماء على قتل الذكر بالأنثى، وعلى وجوب القصاص في القتل بغير المحدد، والسلاح.
وقال البيهقي في (السنن الكبرى)، في باب (قتل الرجل بالمرأة): أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو زكريا يحيى بن محمد العنبري، ثنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم العبدي، ثنا الحكم بن موسى القنطري، ثنا يحيى بن حمزة، عن سليمان بن داود، عن الزهري، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنه كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض، والسنن، والديات، وبعث به مع عمرو بن حزم، وكان فيه، وإن الرجل يقتل بالمرأة".
وروي هذا الحديث موصولًا أيضًا النسائي، وابن حبان، والحاكم، وفي تفسير ابن كثير ما نصه: وفي الحديث الذي رواه النسائي، وغيره "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب في كتابه عمرو بن حزم أن الرجل يقتل بالمرأة، وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا لعمرو بن حزم الذي فيه أن الرجل يقتل بالمرأة، رواه مالك، والشافعي، ورواه أيضًا الدارقطني، وأبو داود، وابن حبان، والحاكم، والدارمي وكلام علماء الحديث في كتاب عمرو بن حزم هذا مشهور بين مصحح له، ومضعف وممن صححه ابن حبان، والحاكم والبيهقي، وعن أحمد أنه قال: أرجو أن يكون صحيحًا. وصححه أيضًا من حيث الشهرة لا من حيث الإسناد، جماعة منهم الشافعي فإنه قال: لم يقبلوا هذا الحديث حتى ثبت عندهم أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن عبد البر: هو كتاب مشهور عند أهل السير، معروف ما فيه عند أهل العلم يستغني بشهرته عن الإسناد. لأنه أشبه المتواتر لتلقي الناس له بالقبول، قال: ويدل على شهرته ما روى ابن وهب عن مالك عن الليث بن سعيد، عن يحيى بن سعد عن سعيد بن المسيب قال: وجد كتاب عند آل حزم يذكرون أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال العقيلي: هذا حديث ثابت محفوظ، وقال يعقوب بن سفيان: لا أعلم في جميع الكتب المنقولة كتابًا أصح من كتاب عمرو بن حزم هذا، فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين يرجعون إليه، ويدعون رأيهم.
وقال الحاكم: قد شهد عمر بن عبد العزيز وإمام عصره الزهري بالصحة لهذا الكتاب، ثم ساق ذلك بسنده إليهما وضعف كتاب ابن حزم هذا جماعة، وانتصر لتضعيفه أبو محمد بن حزم في محلاه.
والتحقيق صحة الاحتجاج به، لأنه ثبت أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كتبه ليبين به أحكام الديات، والزكوات وغيرها، ونسخته معروفة في كتب الفقه. والحديث: ولاسيما عند من يحتج بالمرسل كمالك، وأبي حنيفة، وأحمد في أشهر الروايات.
ومن أدلة قتله بها عموم حديث "المسلمون تتكافؤ دماؤهم" الحديث، وسيأتي البحث فيه إن شاء الله، ومن أوضح الأدلة في قتل الرجل بالمرأة قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} ، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحلُّ دم امرىءٍ مسلم يشهد أن لا إلاه إلا الله، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس" الحديث، أخرجه الشيخان، وباقي الجماعة من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
فعموم هذه الآية الكريمة، وهذا الحديث الصحيح يقتضي قتل الرجل بالمرأة، لأنه نفس بنفس، ولا يخرج عن هذا العموم، إلا ما أخرجه دليل صالح لتخصيص النَّصر به. نعم يتوجه على هذا الاستدلال سؤالان:
الأول: ما وجه الاستدلال بقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الآية، مع أنه حكاية عن قوم موسى، والله تعالى يقول: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} .
السؤال الثاني: لم لا يخصص عموم قتل النفس بالنفس في الآية والحديث المذكورين بقوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى} ، لأن هذه الآية أخص من تلك، لأنها فصَّلت ما أجمل في الأُولى، ولأن هذه الأمة مخاطبة بها صريحًا في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ} . الجواب عن السؤال الأول: أن التحقيق الذي عليه الجمهور، ودلت عليه نصوص الشرع، أن كل ما ذكر لنا في كتابنا، وسنة نبيِّنا صلى الله عليه وسلم، مما كان شرعًا لمن قبلنا أنه يكون شرعًا لنا، من حيث إنه وارد في كتابنا، أو سُنُة نبِّينا صلى الله عليه وسلم، لا من حيث إنه كان شرعًا لمن قبلنا، لأنه ما قص علينا في شرعنا إلا لنعتبر بِه، ونعمل بما تضمن.
والنصوص الدالة على هذا كثيرة جدًا، ولأجل هذا أمر الله في القرآن العظيمِ في غير ما آية بالاعتبار بأحوالهم، ووبَّخ من لم يعقل ذلك، كما في قوله تعالى في قوم لوط: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} .
ففي قوله: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} توبيخ لمن مرَّ بديارِهم، ولم يعتبر بما وقع لهم، ويعقل ذلك ليجتنب الوقوع في مثله، وكقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} ، ثم هدد الكفار بمثل ذلك، فقال: {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} .
وقال في حجارة قوم لوط التي أهلكوا بها، أو ديارهم التي أهلكوا فيها: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} ، وهو تهديد عظيم منه تعالى لمن لم يعتبر بحالهم، فيجتنب ارتكاب ما هلكوا بسببه، وأمثال ذلك كثير في القرآن.
وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ} فصرح بأنه يقص قصصهم في القرآن للعبرة، وهو دليل واضح لما ذكرنا، ولما ذكر الله تعالى من ذكر من الأنبياء في سورة الأنعام، قال لنبيِّنا صلى الله عليه وسلم: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} ، وأمره صلى الله عليه وسلم أمر لنا، لأنه قدوتنا، ولأن الله تعالى يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}، ويقول: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} ، ويقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} .
ويقول: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} ، ومن طاعته اتباعه فيما أمر به كله، إلا ما قام فيه دليل على الخصوص به صلى الله عليه وسلم، وكون شرع من قبلنا الثابت بشرعنا شرعًا لنا، إلا بدليل على النسخ هو مذهب الجمهور، منهم مالك، وأبو حنيفة، وأحمد في أشهر الروايتين، وخالف الإمام الشافعي رحمه الله في أصح الروايات عنه، فقال: إن شرع من قبلنا الثابت بشرعنا ليس شرعًا لنا إلا بنص من شرعنا على أنه مشروع لنا، وخالف أيضًا في الصحيح عنه في أن الخطاب الخاص بالرسول صلى الله عليه وسلم يشمل حكمه الأمة. واستدل للأول بقوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} وللثاني: بأن الصيغة الخاصة بالرسول لا تشمل الأمة وضعًا، فإدخالها فيها صرف للفظ عن ظاهره، فيحتاج إلى دليل منفصل، وحمل الهدى في قوله: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}، والدين في قوله: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ} على خصوص الأصول التي هي التوحيد دون الفروع العملية، لأنه تعالى قال في العقائد: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} ، وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} ، وقال: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} .
وقال في الفروع العملية: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}، فدل ذلك على اتفاقهم في الأصول، واختلافهم في الفروع، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إنا معشر الأنبياء إخوة لعلات ديننا واحد"، أخرجه البخاري في صحيحه، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أما خمل الهدى في آية {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} والدِّين في آية {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ} على خصوص التوحيد دون الفروع العملية، فهو غير مسلم، أما الأول فلما أخرجه البخاري في صحيحه، في تفسير سورة ص?، عن مجاهد "أنه سأل ابن عبَّاس: مِن أين أخذت السجدة في ص? فقال: أو ما تقرأ: {وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ} {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} ، فسجدها داود، فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذا نص صحيح صريح عن ابن عباس، أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أدخل سجود التلاوة في الهدى في قوله: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}، ومعلوم أن سجود التلاوة فرع من الفروع لا أصل من الأصول.
وأما الثاني: فلأن النَّبي صلى الله عليه وسلم صرح في حديث جبريل الصحيح المشهور أن اسم "الدين" يتناول الإسلام، والإيمان، والإحسان، حيث قال: "هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم"، وقال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ} ، وقال: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} .
وصرح صلى الله عليه وسلم في الحديث المذكور بأن الإسلام يشمل الأمور العملية، كالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وفي حديث ابن عمر المتفق عليه، "بني الإسلام على خمس" الحديث، ولم يقل أحد إن الإسلام هو خصوص العقائد، دون الأمور العملية، فدل على أن الدين لا يختص بذلك في قوله: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} ، وهو ظاهر جدًا، لأن خير ما يفسر به القرآن هو كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وأما الخطاب الخاص بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم في نحو قوله: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} ، فقد دلت النصوص على شمول حكمه للأمة، كما في قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} إلى غيرها مما تقدم من الآيات، وقد علمنا ذلك من استقراء القرآن العظيم حيث يعبر فيه دائمًا بالصيغة الخاصة به صلى الله عليه وسلم، ثم يشير إلى أن المراد عموم حكم الخطاب للأمة، كقوله في أول سورة الطلاق: {يا أيها النبي} ، ثم قال: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء} ، فدل على دخول الكل حكمًا تحت قوله: {منتظرون يا أيها النبي}، وقال في سورة التحريم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ} ، ثم قال: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} ، فدل على عموم حكم الخطاب بقوله: {منتظرون يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ}، ونظير ذلك أيضًا في سورة الأحزاب في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} ، ثم قال: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}، فقوله {بِمَا تَعْمَلُونَ} يدل على عموم الخطاب بقوله: {منتظرون يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ}، وكقوله {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ} ، ثم قال: {وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا}.
ومن أصرح الأدلة في ذلك آية الروم، وآية الأحزاب، أما آية الروم فقوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} ، ثم قال: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} ، وهو حال من ضمير الفاعل المستتر، المخاطب به النَّبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ}، الآية.
وتقرير المعنى: فأقم وجهك يا نبي الله، في حال كونكم منيبين، فلو لم تدخل الأمة حكمًا في الخطاب الخاصِّ به صلى الله عليه وسلم لقال: منيبًا إليه، بالإفراد، لإجماع أهل اللسان العربي على أن الحال الحقيقية أعني التي لم تكن سببية تلزم مطابقتها لصاحبها إفرادًا وجمعًا وثنية، وتأنيثًا وتذكيرًا، فلا يجوز أن تقول: جاء زيد ضاحكين، ولا جاءت هند ضاحكات، وأما آية الأحزاب، فقوله تعالى في قصة زَينب بنت جَحْش الأسدية رضي الله عنها: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} ، فإن هذا الخطاب خاصّ بالنَّبي صلى الله عليه وسلم.
وقد صرح تعالى بشمول حكمته لجميع المؤمنين في قوله: {لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ}، وأشار إلى هذا أيضًا في الأحزاب بقوله: {خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} ، لأن الخطاب الخاص به صلى الله عليه وسلم في قوله: {إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} ، لو كان حكمه خاصًا به صلى الله عليه وسلم لأغنى ذلك عن قوله: {خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ}، كما هو ظاهر.
وقد ردت عائشة رضي الله عنها على من زعم أن تخيير الزوجة طلاق، بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خير نساءه فاخترنه، فلم يعده طلاقًا مع أن الخطاب في ذلك خاص به صلى الله عليه وسلم، في قوله تعالى: {قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} .
وأخذ مالك رحمه الله بينونة الزوجة بالردة من قوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} ، وهو خطاب خاص به صلى الله عليه وسلم.
وحاصل تحرير المقام في مسألة "شرع من قبلنا" أن لها واسطة وطرفين، طرف يكون فيه شرعًا لنا إجماعًا، وهو ما ثبت بشرعنا أنه كان شرعًا لمن قبلنا، ثم بين لنا في شرعنا أنه شرع لنا، كالقصاص، فإنه ثَبت بشرعنا أنه كان شرعًا لمن قبلنا، في قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} ، وبين لنا في شرعنا أنه مشروع لنا في قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} ، وطرف يكون فيه غير شرعٍ لنا إجماعًا وهو أمران: أحدهما: ما لم يثبت بشرعنا أصلًا أنه كان شرعًا لمن قبلنا، كالمتلقي من الإسرائيليات، لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن تصديقهم، وتكذيبهم فيها، وما نهانا صلى الله عليه وسلم عن تصديقه لا يكون مشروعًا لنا إجماعًا.
والثاني: ما ثبتَ في شرعنا أنه كان شرعًا لمن قبلنا، وبين لنا في شرعنا أنه غير مشروع لنا كالآصار، والأغلال التي كانت على من قبلنا، لأنَّ الله وضعها هنا، كما قال تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} وقد ثبت في صحيح مسلم: "أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ {ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا} أن الله قال: نعم قد فعلت".
ومن تلك الآصار التي وضعها الله عنا، على لسان نبيِّنا صلى الله عليه وسلم ما وقع لعبدة العجل، حيث لم تقبل توبتهم إلا بتقديم أنفسهم للقتل، كما قال تعالى: {فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} .
والواسطة هي محل الخلاف بين العلماء، وهي ما ثبت بشرعنا أنه كان شرعًا لمن قبلنا، ولمن يبيِّن لنا في شرعنا أنه مشروع لنا، ولا غير مشروع لنا، وهو الذي قدمنا أن التحقيق كونه شرعًا لنا، وهو مذهب الجمهور، وقد رأيت أدلتهم عليه، وبه تعلم أن آية: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}، يلزمنا الأخذ بما تَضَمَّنته مِنَ الأحكام.
مع أن القرآن صرح بذلك في الجملة في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} ، وقوله: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} ، وفي حديث ابن مسعود المتفق عليه المتقدم التصريح بأن ما فيها من قتل النفس بالنفس مشروع لنا، حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلاَّ الله وأني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس"، الحديث.
وإلى هذا أشار البخاري في صحيحه، حيث قال: باب قول الله تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}، إلى قوله: {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، ثم ذكر حديث ابن مسعود المتقدم، وقال ابن حجر: والغرض من ذكر هذه الآية مطابقتها للفظ الحديث، ولعله أراد أن يبين أنها وإن وردت في أهل الكتاب، فالحكم الذي دلت عليه مستمر في شريعة الإسلام فهو أصل في القصاص في قتل العمد، ويدل لهذا قوله صلى الله عليه وسلم: "كتاب الله القصاص" أخرجه الشيخان من حديث أنس، بناء على أن المراد بكتاب الله قوله تعالى {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} في هذه الآية التي نحن بصددها، وعلى بقية الأقوال فلا دليل في الحديث، ولم يزل العلماء يأخذون الأحكام من قصص الأمم الماضية، كما أوضحنا دليله.